سورة النبأ - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النبأ)


        


{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)}
وذلك لأن الملائكة أعظم المخلوقات قدراً ورتبة، وأكثر قدرة ومكانة، فبين أنهم لا يتكلمون في موقف القيامة إجلالاً لربهم وخوفاً منه وخضوعاً له، فكيف يكون حال غيرهم. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: لمن يقول بتفضيل الملك على البشر أن يتمسك بهذه الآية، وذلك لأن المقصود من الآية أن الملائكة لما بقوا خائفين خاضعين وجلين متحيرين في موقف جلال الله، وظهور عزته وكبريائه، فكيف يكون حال غيرهم، ومعلوم أن هذا الاستدلال لا يتم إلا إذا كانوا أشرف المخلوقات.
المسألة الثانية: اختلفوا في الروح في هذه الآية، فعن ابن مسعود أنه ملك أعظم من السموات والجبال.
وعن ابن عباس هو ملك من أعظم الملائكة خلقاً، وعن مجاهد: خلق على صورة بني آدم يأكلون ويشربون، وليس بناس، وعن الحسن وقتادة هم بنو آدم، وعلى هذا معناه ذو الروح، وعن ابن عباس أرواح الناس، وعن الضحاك والشعبي هو جبريل عليه السلام، وهذا القول هو المختار عند القاضي. قال: لأن القرآن دل على أن هذا الاسم اسم جبريل عليه السلام، وثبت أن القيام صحيح من جبريل والكلام صحيح منه، ويصح أن يؤذن له فكيف يصرف هذا الاسم عنه إلى خلق لا نعرفه، أو إلى القرآن الذي لا يصح وصفه بالقيام.
أما قوله: {صَفَّا} فيحتمل أن يكون المعنى أن الروح على الاختلاف الذي ذكرناه، وجميع الملائكة يقومون صفاً واحداً، ويجوز أن يكون المعنى يقومون صفين، ويجوز صفوفاً، والصف في الأصل مصدر فينبئ عن الواحد والجمع، وظاهر قول المفسرين أنهم يقومون صفين، فيقوم الروح وحده صفاً، وتقوم الملائكة كلهم صفاً واحداً، فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم، وقال بعضهم: بل يقومون صفوفاً لقوله تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22].
المسألةالثالثة: الاستثناء إلى من يعود؟ فيه قولان:
أحدهما: إلى الروح والملائكة، وعلى هذا التقدير؛ الآية دلت على أن الروح والملائكة لا يتكلمون إلا عند حصول شرطين إحداها: حصول الإذن من الله تعالى، ونظيره قوله تعالى: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] والمعنى أنهم لا يتكلمون إلا بإذن الله.
والشرط الثاني: أن يقول: صواباً، فإن قيل: لما أذن له الرحمن في ذلك القول، علم أن ذلك القول صواب لا محالة، فما الفائدة في قوله: {وَقَالَ صَوَاباً}؟ والجواب من وجهين:
الأول: أن الرحمن أذن له في مطلق القول ثم إنهم عند حصول ذلك الإذن لا يتكلمون إلا بالصواب، فكأنه قيل: إنهم لا ينطلقون إلا بعد ورود الإذن في الكلام، ثم بعد ورود ذلك الإذن يجتهدون، ولا يتكلمون إلا بالكلام الذي يعلمون أنه صدق وصواب، وهذا مبالغة في وصفهم بالطاعة والعبودية الوجه الثاني: أن تقديره: لا يتكلمون إلا في حق {مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً} والمعنى لا يشفعون إلا في حق شخص أذن له الرحمن في شفاعته وذلك الشخص كان ممن قال صواباً، واحتج صاحب هذا التأويل بهذه الآية على أنهم يشفعون للمذنبين لأنهم قالوا صواباً وهو شهادة أن لا إله إلا الله، لأن قوله: {وَقَالَ صَوَاباً} يكفي في صدقه أن يكون قد قال صواباً واحداً، فكيف بالشخص الذي قال القول الذي هو أصوب الأقوال وتكلم بالكلام الذي هو أشرف الكلمات القول الثاني: أن الاستثناء غير عائد إلى الملائكة فقط بل إلى جميع أهل السموات والأرض، والمقول الأول أولى لأن عود الضمير إلى الأقرب أولى.
واعلم أنه تعالى لما قرر أحوال المكلفين في درجات الثواب والعقاب، وقرر عظمة يوم القيامة قال بعده:


{ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا (39)}
{ذَلِكَ اليوم الحق} ذلك إشارة إلى تقدم ذكره، وفي وصف اليوم بأنه حق وجوه:
أحدها: أنه يحصل فيه كل الحق، ويندمغ كل باطل، فلما كان كاملاً في هذا المعنى قيل: إنه حق، كما يقال: فلان خير كله إذا وصف بأن فيه خيراً كثيراً، وقوله: {ذَلِكَ اليوم الحق} يفيد أنه هو اليوم الحق وما عداه باطل، لأن أيام الدنيا باطلها أكثر من حقها.
وثانيها: أن الحق هو الثابت الكائن، وبهذا المعنى يقال إن الله حق، أي هو ثابت لا يجوز عليه الفناء ويوم القيامة كذلك فيكون حقاً.
وثالثها: أن ذلك اليوم هو اليوم الذي يستحق أن يقال له يوم، لأن فيه تبلى السرائر وتنكشف الضمائر، وأماأيام الدنيا فأحوال الخلف فيها مكتومة، والأحوال فيها غير معلومة.
قوله تعالى: {فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ مَآباً} أي مرجعاً، والمعتزلة احتجوا به على الاختيار والمشيئة، وأصحابنا رووا عن ابن عباس أنه قال: المراد فمن شاء الله به خيراً هداه حتى يتخذ إلى ربه مآباً.


{إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)}
ثم إنه تعالى زاد في تخويف الكفار فقال: {إِنَّا أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً} يعني العذاب في الآخرة، وكل ما هو آت قريب، و(هو) كقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضحاها} [النازعات: 46] وإنما سماه إنذاراً، لأنه تعالى بهذا الوصف قد خوف منه نهاية التخويف وهو معنى الإنذار.
ثم قال تعالى: {يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ما في قوله: {مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} فيه وجهان الأول: أنها استفهامية منصوبة بقدمت، أي ينظر أي شيء قدمت يداه الثاني: أن تكون بمعنى الذي وتكون منصوبة ينتظر، والتقدير: ينظر إلى الذي قدمت يداه، إلا أن على هذا التقدير حصل فيه حذفان أحدهما: أنه لم يقل: قدمته، بل قال: {قَدَّمْتُ} فحذف الضمير الراجع الثاني: أنه لم يقل: ينظر إلى ما قدمت، بل قال: ينظر ما قدمت، يقام نظرته بمعنى نظرت إليه.
المسألة الثانية: في الآية ثلاثة أقوال: الأول: وهو الأظهر أن المرء عام في كل أحد، لأن المكلف إن كان قدم عمل المتقين، فليس له إلا الثواب العظيم، وإن كان قدم عمل الكافرين، فليس له إلا العقاب الذي وصفه الله تعالى، فلا رجاء لمن ورد القيامة من المكلفين في أمر سوى هذين، فهذا هو المراد بقوله: {يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} فطوبى له إن قدم عمل الأبرار، وويل له إن قدم عمل الفجار والقول الثاني: وهو قول عطاء: أن المر هاهنا هو الكافر، لأن المؤمن كما ينظر إلى ما قدمت يداه، فكذلك ينظر إلى عفو الله ورحمته وأما الكافر الذي لا يرى إلا العذاب، فهو لا يرى إلا ما قدمت يداه، لأن ما وصل إليه من العقاب ليس إلا من شؤم معاملته والقول الثالث: وهو قول الحسن، وقتادة أن المرء هاهنا هو المؤمن، واحتجوا عليه بوجهين:
الأول: أنه تعالى قال بعد هذه الآية، {وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ ترابا} فلما كان هذا بياناً لحال الكافر، وجب أن يكون الأول بياناً لحال المؤمن والثاني: وهو أن المؤمن لما قدم الخير والشر فهو من الله تعالى على خوف ورجاء، فينتظر كيف يحدث الحال، أما الكافر فإنه قاطع بالعقاب، فلا يكون له انتظار أنه كيف يحدث الأمر، فإن مع القطع لا يحصل الانتظار.
المسألة الثالثة: القائلون: بأن الخير يوجب الثواب والشر يوجب العقاب تمسكوا بهذه الآية، فقالوا: لولا أن الأمر كذلك، وإلا لم يكن نظر الرجل في الثواب والعقاب على عمله بل على شيء آخر والجواب عنه: أن العمل يوجب الثواب والعقاب، لكن بحكم الوعد والجعل لا بحكم الذات.
أما قوله تعالى: {وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ ترابا} ففيه وجوه:
أحدها: أن يوم القيامة ينظر المرء أي شيء قدمت يداه، أما المؤمن فإنه يجد الإيمان والعفو عن سائر المعاصي على ما قال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} وأما الكافر فلا يتوقع العفو على ما قال: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] فعند ذلك يقول الكافر: {ياليتني كُنتُ ترابا} أي لم يكن حياً مكلفاً.
وثانيها: أنه كان قبل البعث تراباً، فالمعنى على هذا. يا ليتني لم أبعث للحساب، وبقيت كما كنت تراباً، كقوله تعالى: {ياليتها كَانَتِ القاضية} [الحاقة: 27] وقوله: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض} [النساء: 42].
وثالثها: أن البهائم تحشر فيقتص للجماء من القرناء ثم يقال لها بعد المحاسبة: كوني تراباً فيتمنى الكافر عند ذلك أن يكون هو مثل تلك البهائم في أن يصير تراباً، ويتخلص من عذاب الله وأنكر بعض المعتزلة ذلك. وقال: إنه تعالى إذا أعادها فهي بين معوض وبين متفضل عليه، وإذا كان كذلك لم يجز أن يقطعها عن المنافع، لأن ذلك كالإضرار بها، ولا يجوز ذلك في الآخرة، ثم إن هؤلاء قالوا: إن هذه الحيوانات إذا انتهت مدة أعواضها جعل الله كل ما كان منها حسن الصورة ثواباً لأهل الجنة، وما كان قبيح الصورة عقاباً لأهل النار، قال القاضي: ولا يمتنع أيضاً إذا وفر الله أعواضها وهي غير كاملة العقل أن يزيل الله حياتها على وجه لا يحصل لها شعور بالألم فلا يكون ذلك ضرراً.
ورابعها: ما ذكره بعض الصوفية فقال قوله: {ياليتني كُنتُ ترابا} معناه يا ليتني كنت متواضعاً في طاعة الله ولم أكن متكبراً متمرداً.
وخامسها: الكافر إبليس يرى آدم وولده وثوابهم، فيتمنى أن يكون الشيء الذي احتقره حين قال: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [ص: 76] والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8